في طفولتي كنت أقطن منزلا بتصميم عجيب׃ المرحاض يوجد في آخر الفناء و عليه في الشتاء يجب أن أذهب إلى بيت الراحة و المضلة في يدي، كانت توجد بالمنزل غرفة بلا نوافذ أطلقنا عليها " البيت الاكحل"، و بالمنزل كان يوجد قبو مظلم للوصول إليه يجب أن تمر بدهليز طويل مظلم لم نكن نجرؤ على الوصول إليه و هكذا أصبح جحرا للفئران.
أمي كانت دائما تسب المهندس صاحب التصميم و أبي كان يقول أنه عند شرائه القطعة الأرضية، البلدية قدمت له تصميما بخمسمائة درهم بدعوى أن البلدية قامت بإنجاز تصميم موحد للحي بأكمله.
كان يجب أن أدرس الهندسة المعمارية و أشتغل بالإدارة المغربية لأفهم أن الجمل الأثيرة- " خديت البلان من البلدية" أو " البلان ديال البلدية"- التي يرددها جل المواطنين كلما سألتهم عن المهندس الذي صمم منزلهم، هي جمل تحمل في طياتها كثير من الجهل بقوانين التعمير و تغفل المواطنين عن حقوقهم الإدارية مما يجعلهم عرضة للنصب و الاحتيال.
فالبلدية " كترخص البلان فقط". المهندس المعماري الذي يزاول بالقطاع الخاص هو وحده من له حق إنجاز التصميم الهندسي و ملزم قانونيا بتتبع الأشغال و التأكد من توافقها مع التصميم.
ولكن المواطن للأسف لا يهتم بمحتوى التصميم لأنه أصلا لا يجيد قراءته. التصميم لا يعني له أكثر من " الكارط الأزرق مختوم بالرأي المطابق"، التصميم الهندسي للأسف عند الأغلبية الساحقة عبارة عن وثيقة إدارية لا مفر منها للحصول على رخصة البناء. المواطن إذا طرق باب مكتب المهندس المعماري فليس لأنه مقتنع بعمله و بالقيمة المضافة التي سيمنحها لمشروعه و لأرضه، و لكن فقط لأنه مضطر لذلك ولم يهتد لمسلك آخر.
هذا الأمر محير لأنه ليس منطقيا البتة، خاصة عندما نتأمل سلوك المغاربة في مواقف مماثلة׃ السيدة منا إ ذا اشترت ثوبا تبذل مجهودا خرافيا للبحث عن الخياط الأمثل، تستعين بالمجلات، بالجارات، برأي الخياطين و الخياطات... تهتم بكل كبيرة و صغيرة تخص فصالة و حياكة ثوبها. مستعدة للدفاع عن ثوبها من الضياع و التلف وويل للخياط الذي لم يحسن فصالة جلبابها.
يحدث هذا في ثوب لا يتعدى ثمنه مئات الدراهم أما في أرض تساوي الملايين و في أحيان كثيرة الملايير و تبنى بعشرات الملايين يحدث النقيض تماما׃ في الأغلبية العظمى صاحب الأرض يكتفي بتصميم متهندس بالإدارة المسئولة بتسليم تراخيص البناء. صاحب المشروع ليس ساذجا و لكن يقع ضحية فطنته الزائدة عن حدها: إنه يعلم أنه إذا لم يستسلم لابتزاز ومضايقات المتهندس و دعوته الصريحة بأن يتكلف بمشروعه فإنه سيعاني الكثير قبل الحصول على رخصة البناء و ربما لن يحصل عليها أبدا. ولكنه يتناسى أنه بإذعانه سيتحمل وحده وطول عمره رداءة التصميم و أخطاء يصعب إصلاحها.
إن سماسرة البناء و مشعوذي الهندسة المعمارية لا يهتمون بجودة التصميم لأنهم يملكون صلاحية البث فيه. تماما كمن يسوق لحوما فاسدة لأنه متأكد تماما من قدرته على بيعها ومن وجود المغفل الذي سيشتريها.
من أغرب ما سمعت في حياتي، عندما سألت من باب الفضول أحد المتهندسين عن سر رداءة المشاريع المقترحة من حيث الإنجاز ، رده الذي يشبه النكتة بكونهم لا يملكون الوقت للتصميم و التخطيط نظرا لكثرة المشاريع المنهالة عليهم، ولهذا فإنهم يكلفون تقنيا بسيطا يعيش في بادية مجاورة برسم التصاميم مقابل مائتي درهم . و أضاف بابتسامة ماكرة أنه يمكن تخيل الظروف التي يرسم فيها التصميم׃ غالبا فوق مائدة الطعام أو فوق "القصعة دكسكسو". " أش كاتسينو من بلان كيترسم فوق القصعة دكسكسو؟"
الظاهرة للأسف منتشرة في جميع أنحاء المغرب و يصعب التغلب عليها لأنها مرتبطة بوعي الزبون و بمدى إيمانه بالاحترافية.
الهندسة المعمارية مهنة حديثة العهد في المغرب، و لهذا السبب المغاربة لم يتقبلوا بعد دور المهندس المعماري.
الأطباء عانوا الأمرين في الماضي بعدم اكتراث المواطنون لهم و تفضيل الدجالين و المشعوذين عليهم، و لكنهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي. نظموا قافلات تطوعية في البوادي و الأحياء الهامشية، أنجزوا برامج و ندوات تحسيسية، وزعوا الأدوية بالمجان، عرفوا بالبعد الإنساني و الاجتماعي لمهنتهم. مستو صفاتنا المزدحمة اليوم كالأسواق خير دليل على نجاحهم الساحق في اكتساب ثقة المواطنين لهم.
أما مهندسونا فإنهم يفضلون التحدث بالفرنسية في مجتمع تسوده الأمية و التحدث عن مشاكل المهنة في فنادق الخمس نجوم " مع بعضياتهم". لجوء المواطن إلى متهندس في القطاع العام هو رد فعل طبيعي لأنه يخاطبهم بلغة و بأسلوب يستوعبونه. المتهندس لا ينسى بين الفينة و الأخرى أن يشفي غليلهم في احتقار دور المهندس المعماري ׃ " المهندس غير كيخور و مافاهم والو..". بل الأدهى في أحيان كثيرة يعرقل مشروعه " بسير حتى تجي " و كأنه يقول لصاحب المشروع " إو خلي المهندس ديالك يعطيك الرخصة..إو شتي إذا اكنت جيتي عندي من الأول كراك سكنتي دابا..."
في حقيقة الأمر لا يوجد فرق كبير بين مهندس القطاع الخاص و متهندس القطاع العام فكلاهما يملكان "الطابع". الفوارق شكلية فقط ولا تستحق أن نقف عليها أو نعيرها أدنى اهتمام׃ متهندسو القطاع العام لا يحتاجون إلى دبلوم في الهندسة المعمارية و غير مجبرين حتى بدراستها, لا يحتاجون إلى ترخيص لمزاولة المهنة، كما أنهم معفيون من دفع الضرائب وفي غنى عن التكوين المستمر و تطوير الكفاءة وغير مطالبين البتة بالجودة
ولا حتى باحترام معايير و قوانين البناء.
مسعود أمل